لم تعمل الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة إلا على تصدير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لباقي العالم. فأضحت جميع أشكال التضامن مع غزة والاحتجاج ضد الهجمات الإسرائيلية في العالم الغربي نوعا من أنواع التحيز للعنف والإرهاب في مقابل “إنسية غربية متحيزة” تدافع حصريا عن “الضحايا والإنسان الإسرائيلي”. هذا التحول في التعاطي مع ما يجري في غزة
لم تعمل الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة إلا على تصدير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لباقي العالم. فأضحت جميع أشكال التضامن مع غزة والاحتجاج ضد الهجمات الإسرائيلية في العالم الغربي نوعا من أنواع التحيز للعنف والإرهاب في مقابل “إنسية غربية متحيزة” تدافع حصريا عن “الضحايا والإنسان الإسرائيلي”. هذا التحول في التعاطي مع ما يجري في غزة تلته عدة تغيرات في الخطاب الإعلامي الغربي مع بعض الاستثناءات التي أضحت نشازا مقارنة مع الإجماع الغربي على تجريم المقاومة والترافع على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. يتجسد هذا التغيير في تحييد وتغييب مقولات “الوحشية” و”التقتيل” على إسرائيل وتفريخ تعابير الإرهاب والحيوانية والهمجية على العمليات الميدانية للمقاومة حيث تم التكريس الإعلامي لنسق أسطورة القاتل بالتسلسل وضحاياه من الإسرائيليين، وكذلك صورة الجلاد والمخرب الذي يقتل الأطفال والنساء والشباب ولا يكترث بإنسانية ضحاياه. لهذا يبدو أن الغرب أعلن “مساندته العلنية للكشف على هذه الجرائم” مثل فرنسا وألمانيا اللتين منعتا المسيرات المتضامنة مع المدنيين الفلسطينيين تحت ذريعة رفضهما التستر على “الإرهاب والوحشي.
فالتوافق والإجماع الغربي على رفض المقاومة الفلسطينية وتقبل ومباركة الغارات الحربية الإسرائيلية ضد غزة يمكن اعتباره “حركة إنسية غربية” جديدة ذات طبيعة تحيزية وانتقائية تعاكس في فحواها وفلسفتها الحركة الإنسية التي عرفتها أوروبا خلال القرنين 15 و16 والتي قامت على مقولة تمجيد وإعادة الاعتبار للإنسان. أما في الوقت الراهن فيمكن معاينة انبثاق “فكر إنسي غربي اختزالي” يقتصر على عنصر بشري محدد: العنصر الإسرائيلي. من هذا المنظور فجرائم إسرائيل التي تنكشف من خلال مشاهد أشلاء الجثث والترويع والقتل والتهجير والتجويع والتخويف والترهيب والتنكيل بأطفال ونساء وشيوخ ساكنة غزة التي يقترفها الجيش الإسرائيلي لا يمكن وصفها بـ”لا إنساني” بل إنها مع كل “المسافة الموضوعية” و”التجرد المفاهيمي” اللازم همجية وفي الآن نفسه يلبسها الإعلام الغربي لبوس الدفاع المشروع. في هذا السياق يجب التذكير بأن مفردة “إنسية” تحيل في اشتقاقها اللغوي على إنسية الإنسان وأنسه وتجانسه وتآلفه أي انتمائه لبني البشر الذي يتميز على باقي الكائنات بكونه يروم وينتهج سلوكات اجتماعية وثقافية وقيمية تصب في تقوية الروابط مثل التعايش والتشارك والعيش المشترك والمساندة والعاطفة لتصبح ممارسات الكراهية والتنكر والاستعلاء والمغالاة والتطرف والاستفراد والعنصرية والإكزنوفوبيا منهجا ومسلكا لا إنسيا يذكر ببعض التيارات الفكرية والنزوعات الإيديولوجية من قبيل النازية والفاشستية والأبارتايد…
تبعا لهذه المقاربة يمكن اعتبار التحيز الجلي لغالبية الهيئات والقنوات الرسمية الغربية نوعا من أنواع الالتفاف على “لا إنسية” الهجوم الإسرائيلي على غزة وتشجيعها على خلق ثقافة جديدة يصنف فيها الإنسان بحسب الرهانات والتحديات الجيوسياسية وكصنف محدث من التراتبية في الإنسانية. يمكن تفسير هذا التناقض والتراتبية في الإنسية من خلال استقراء ردود الفعل الرسمية المؤسساتية الغربية عبر مستويين مختلفين، مستوى خطابي ينم على انفصام لغوي (سكيزوكلوسييا) يعمد لغة التضامن والمساندة والعاطفة اللامشروطة لإسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، في مقابل نسق دلالي محتشم وحذر لا يتعدى سقف “القلق” من جرائم الجيش الإسرائيلي، والتي تصنف في خانة “الدفاع عن النفس”. بموازاة هذه الردود يمكن ملاحظة تزايد مستوى دبلوماسي يهدف إلى قطع الطريق على الفلسطينيين للمطالبة بدولتهم وحقوقهم الترابية عبر خلق لوبيات قوية ومرافعات مهيمنة تستمد مضامينها من أساطير الضحية التاريخية، الهدف منها تأثيث المنتديات والمحافل الدولية بفضاء من العداء لكل ما هو فلسطيني.
لكن في مقابل هذا العداء والآليات والمواقف المتحيزة لإسرائيل انبرت حركة إنسية مضادة على إثر الغارات المتتالية على قطاع غزة للترافع والاحتجاج عبر المسيرات والوقفات لصالح الضحايا المدنيين، للضغط على الحكومات والمقررين السياسيين لاتخاذ التدابير اللازمة لوقف العدوان الإسرائيلي. هذه الحركة الإنسية التلقائية والمكونة من شبكة عالمية للناشطين المدنيين والحقوقيين يمكن أن تشكل في المستقبل القريب بديلا لبعض الشبكات المعروفة التي لم تقو على مواجهة واختراق اللوبيات المدنية المساندة والداعمة لإسرائيل. إن اعتماد هذه الإنسية المضادة في المساندة والتضامن والوقوف مع غزة يشكل مدخلا أساسيا لإعادة التنسيق في إيجاد الحلول ومنعطفا فكريا يظهر بشاعة السلوك الإجرامي لإسرائيل، لا سيما إذا تم استحضار المرجعية الفلسفية والرمزية لمدرسة ورؤيا تكرس لكرامة الإنسان وتعمل من أجله ومن أجل إسعاده وخدمته ورفاهيته. من هذا المنطلق فهجوم إسرائيل وتقتيلها لأهالي غزة ليس فقط شأنا فلسطينيا إسرائيليا يمكن حصره في صراع ثنائي، بل هو أساسا قضية إنسية تضرب في عمق إنسانية الإنسان وتتجاوز الحدود الجغرافية والإقليمية، وتتصل بماهية وطبيعة الإنسان وتحيل مباشرة على خلل كوني يسائل نبل وفلسفة الفكر الغربي في ظل المشاهد المتكررة للعنف الإجرامي الإسرائيلي ضد الأطفال والنساء والرضع.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *