يسري فوده أخيرًا “تشجعت” بي بي سي فأعدت تقريرًا قويًا يوثق جانبًا من عمليات قنص الأطفال والمدنيين العزّل في غرْة. أذيع التقرير الطويل نسبيًا باللغتين العربية والإنغليزية واحتوى جهدًا ملحوظًا في التوثيق والرصد والرسوم التوضيحية.إذا كان لديك بعض الخبرة بالعمل الصحفي ستشعر بالصهد الطافح من عملية إدارة النص والصور أثناء الإعداد ومن قيود التوازن المبالغ
يسري فوده
أخيرًا “تشجعت” بي بي سي فأعدت تقريرًا قويًا يوثق جانبًا من عمليات قنص الأطفال والمدنيين العزّل في غرْة. أذيع التقرير الطويل نسبيًا باللغتين العربية والإنغليزية واحتوى جهدًا ملحوظًا في التوثيق والرصد والرسوم التوضيحية.
إذا كان لديك بعض الخبرة بالعمل الصحفي ستشعر بالصهد الطافح من عملية إدارة النص والصور أثناء الإعداد ومن قيود التوازن المبالغ فيه تحسبًا لردة فعل الجاني ومن يقف وراءه.
السؤال الأهم: لماذا لم يخرج تقرير كهذا من بي بي سي قبل عام مثلًا أو حتى قبل شهور قليلة؟ والإجابة المؤسفة تكمن في الفارق الجوهري بين ممارسة العمل الصحفي في أوانه وممارسة العمل التأريخي بعد فوات الأوان. رغم كل القيود التي فرضها الإس.رIئيليون على حرية الحركة منذ البداية كانت لدى بي بي سي – وغيرها في الواقع – كل الأدوات التي تمكنها من قول الحق حين كان لهذا قيمة وثمن. فعلتها قبل ذلك تاريخيًا في أمثلة كثيرة لكنها اختارت ألا تفعلها هذه المرة.
لماذا إذًا؟ لأن الإس.رIئيليين في تقديري قرروا أنهم قد أصابوا الحد الأدنى من تغيير الواقع ميدانيًا إلى غير رجعة بحيث يمكن السماح لبعض التقارير “التأريخية” لتخدير الضمير العالمي الملتهب من جراء الصور والشهادات الفظيعة التي لا يمكن السيطرة على خروجها الآن من غرْة.
هذه ممارسة يعج بأمثلتها التاريخ الحديث والمعاصر في أوقات الحروب والأزمات: اغلق الباب أمام سؤال “ماذا يفعلون” الآن، وافتحه لاحقًا أمام سؤال “كيف فعلوها”. وهذا واحد من الفروق الجوهرية بين العمل الصحفي الميداني في حينه والعمل التأريخي التوثيقي بعد فوات الأوان.
في الوقت نفسه تستيقظ كل صباح الآن على صور الإنزال الجوي للمساعدات. وهذه طريقة خبيثة لمحاولة خداع الضمير العالمي وتخديره. في إحدى “رحلاته” المبكرة سُمح لمحرر الشؤون الدولية لبي بي سي، جيريمي بووِن، بالانضمام إلى طائرة أردنية تحمل ثمانية أطنان من المساعدات (أقل بكثير مما يمكن أن تحمله شاحنة بضائع واحدة).
جيريمي زميل وصديق من أيام عملي مع بي بي سي ثم الجزيرة، لديه من الكفاءة والخبرة والضمير ما لا بد أن تتوقع معه قدرًا كبيرًا من إحساسه بالإحباط والألم وهو يغطي قصة كهذه بينما هو الآن يحمل أقوى لقب مهني يمكن أن يصل إليه صحفي ميداني.
يقول من على متن الطائرة: “عمليات الإسقاط الجوي (للمساعدات) ممارسة رمزية تبدو صورها جيدة على التليفزيون، وتعطي انطباعًا بأن شيئًا ما يتم عمله. مرّر الأردنيون رسالةً لي من الإس.رIئيليين بأنهم لا يريدون منا أن نقوم بالتصوير من النافذة، ولكنني أنفقت عشر دقائق وأنا أنظر بعينيّ وأستطيع أن أخبركم بأن مجتمعات شمال غرْة التي أعرفها جيدًا وأعرف أنها كانت تنبض بالحياة وبعشرات الآلاف من البشر من أصحاب الأرواح الإنسانية المرموقة قد سُوّيت بالأرض حتى لم يعد منها شيء. إذا كنت قد رأيت صور الأقمار الصناعية لن يفاجئك هذا، لكن رؤيتها بالعين المجردة شيء آخر”.
سوى ذلك، تخترق مشاهد الإسقاط الجوي ستائر اللاوعي لدى كثيرين نحو رسم صورة خبيثة في الأذهان بأن هذه كارثة طبيعية، قضاء وقدر، فعل مبني للمجهول، مثله مثل الأعاصير أو الزلازل أو الحرائق البرية التي لا ذنب لأحد فيها والتي يحاول احتواء آثارها الآن أبطال كرماء.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *