وعي النخبة بمهامها التاريخية في قيادة التغيير لبناء مجتمع العدالة والمعرفة (الجزء الثاني)

وعي النخبة بمهامها التاريخية في قيادة التغيير لبناء مجتمع العدالة والمعرفة (الجزء الثاني)

بقلم: الأستاذ عبد الحكيم قرمان 1 – دينامية التحديث والتطوير في سياقات متحولةفي خضم الديناميات الاحتجاجية المتنامية بالمغرب، حيث تخبو النخب السياسية التقليدية، لتبرز في مقابلها أشكال تنظيمية وتنسيقيات فئوية متفاعلة مع زخم الحركات الاجتماعية المتجددة، يمكن القول إن مسلسل الإصلاحات السياسية والاقتصادية الكبرى، كنتاج للعهد الدستوري المنبثق عن الحراك الاجتماعي والسياسي الذي دشنه المغرب

بقلم: الأستاذ عبد الحكيم قرمان

1 – دينامية التحديث والتطوير في سياقات متحولة
في خضم الديناميات الاحتجاجية المتنامية بالمغرب، حيث تخبو النخب السياسية التقليدية، لتبرز في مقابلها أشكال تنظيمية وتنسيقيات فئوية متفاعلة مع زخم الحركات الاجتماعية المتجددة، يمكن القول إن مسلسل الإصلاحات السياسية والاقتصادية الكبرى، كنتاج للعهد الدستوري المنبثق عن الحراك الاجتماعي والسياسي الذي دشنه المغرب منذ ما يقارب العقد من الزمن، بزخم شبابي وازن لحركة 20 فبراير، وبتجاوب ذكي للمؤسسة الملكية وقوى الصف الديمقراطي والتقدمي وبدعم شعبي عارم، لن يستقيم مدلوله الحضاري ويؤتي ثماره الموعودة بشكل أوضح، سوى عبر تجديد مضامينه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى، وكذا عبر تحيين أبعاده وأهدافه، وبتثبيت الخيار الديمقراطي بمحتواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمجالي.

فبعد ما يقارب الثلاثة عقود من تدشين عهد الانتقالات الدستورية والمؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، هانحن اليوم نقف مجتمعا ودولة أمام نفس الأسئلة المصيرية الكبرى من قبيل : لماذا لم يستطع اقتصادنا الوطني، بالرغم من كل الموارد والمؤهلات المادية والبشرية الهائلة التي حبا الله بها المغرب، من تحقيق وتيرة نمو تمكن من إرساء أسس التنمية المجتمعية المستدامة ؟ وهل فعلا تستثمر كل المؤهلات الاقتصادية والبشرية التي يتوفر عليها البلد بشكل شفاف وديمقراطي وعادل فيما يحتاجه المغرب كمجتمع وكبنيان مؤسسي وكمال للتنظيم والتحديث والبناء؟ ترى هل ما عرفه ويشهده المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم من مخططات وطنية وقطاعية وبرامج تنموية وإصلاحات هيكلية وتجارب اقتصادية وتدبيرية ووصفات مختلفة كثيرة طبقت وانتهت، في الغالب بدون تقييم أو تقويم، إلى استمرار الأزمات والعجز وتعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية، واستمرار كل مظاهر التخلف في القطاعات الحيوية للدولة من أمية وبطالة وضعف تطبيب وانخفاض مؤشرات التنمية البشرية مع كل عوامل الفقر والهشاشة والتهميش والإقصاء؟؟؟ أي تكمن المشاكل الحقيقية يا ترى ؟ هل في تدبير الموارد أم في المناهج أم الاختيارات السياسية أم في النخب الحاكمة ؟

2 – أفول النخب الوسيطة بين الدولة والمجتمع المؤطرة للصراع الاجتماعي

في كل الحالات، تظل النخب والمؤسسات الدستورية الناظمة للحياة العامة بالدولة، معنية ومسئولة أمام التاريخ وأمام المجتمع عن كل ما تم تحقيقه من مكتسبات وجب تثمينها، ومن انتكاسات ينبغي تصحيح مسبباتها وتقويمها، ومن انزياحات وأخطاء وانحرافات في اختيارات مقصودة، إن الأوان لتقييمها وتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات بخصوصها، إن أردنا حقا الانتهاء من مسلسل هدر الوقت والطاقات، الذي لم ولا ولن يخدم، لا الدولة ولا المجتمع المغربيين في شيء. إن للمغرب تاريخا وحضارة ومؤهلات طبيعية واقتصادية ومجالية وبشرية هائلة، من شأن تثمينها مجتمعة واستثمارها بشكل منهجي أن تخرج البلد من كبواته الإنتاجية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، وولوج عهد النهضة المجتمعية الكبرى عبر القطع مع أخطاء وانزياحات الأمس، لركوب موجات الانتقال الحقيقي نحو الديمقراطية السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية، بما يجعل بلدنا، أنموذجا يحتدى بتجربته النيرة المتميزة.

إن بلورة النموذج التنموي المأمول، يتطلب إعمال مقاربات جديدة بعقليات متقدمة في الفكر والخبرة والإدراك العميق لمغزى وأبعاد الرسالة المجتمعية المنوطة بالقائمين على تلقي وتوليف مضامينه، بما يساعد أهل الحل والعقد على صياغة “الاختيارات والسياسات العمومية البديلة”. من هنا يتحدد الانشغال الحقيقي للنخب السياسية والاقتصادية والعالمة، وتتحدد أدوارهم في خضم ديناميات التغيير والتطوير والبناء، وكل الانشغالات ينبغي لها أن تستجيب لتطلعات الفئات الواسعة من المجتمع بكل أسئلتها المقلقة ومتطلباتها التنموية ورؤيتها المستقبلية للدولة والمجتمع…انشغالات راهنية بالقضايا المصيرية للمغرب. انشغالات مجتمعية، تروم إحداث الإصلاحات الملحة لتدبير مسارات الانتقال المتعسرة نحو التأسيس الفعلي لقواعد الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس العدالة الاجتماعية والمجالية، في كنف الدولة الديمقراطية المكتملة البنيان. إنه المسلك القويم الآمن للعبور بالوطن من مرحلة التردد والاحتقان لإرساء مشروعه النهضوي البديل.

3 – ضمور موجات الدمقرطة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية أمام تغول الشعبويات

انبثقت موجات التحول الديمقراطي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليتسع مداها خلال العشرينية الأخيرة من القرن العشرين، ثم تسارعت وتائرها وتنوعت تطبيقاتها بتنوع خصوصيات مجتمعاتها الحضارية. ولعل وقع التأثيرات المزلزلة التي نجمت عن سقوط جدار برلين كإعلان رسمي عن انهيار المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، و أفول مجمل ما كان يرمز إليه من قيم ونماذج للتنمية وأطر فكرية وتنظيمية للدول المنتمية لهذا المنظومة الاشتراكية. وهي التجربة المناقضة للمنظومة الرأسمالية بقيادة أمريكا الرأسمالية، كان لها أبلغ الدلالات والآثار على مستوى التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية العالمية لعقود لاحقة.

كل هذه الأحداث الكونية المتلاحقة، أفرزت في سياقات تفاعلها وتداعياتها المتعددة الأبعاد، أوضاعا ومتغيرات كبرى على مستوى بلورة المفاهيم والقراءات والخلاصات المستفادة من التجربة المنصرمة، أفضت بدورها إلى انبلاج مرحلة تاريخية جديدة، عبر عنها صامويل هانتنجتون بالموجة الثالثة للتحول الديمقراطي، كخيار تحرري لا محيد عنه وتطلع مشروع للمجتمعات التي عاشت تحت نير الأنظمة الشمولية والسلطوية. وعلى هذا النحو، كان ينتظر من الدول العربية والإسلامية أن تلتحق بهذه الموجة “الديمقراطية” للانخراط في سياقاتها الانتقالية نحو التحديث وبناء الدول وفقا لمؤسسات عصرية ذات شرعية مجتمعية وبحمولة جديدة من المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية لشعوبها. لكن هذه البلدان المعنية أكثر من غيرها، وفقا لرؤية المنظر المبشر هانتنجتون، لم ترد، لم تستطع، أو لم يسمح لها، بأن تعتنق “تعاليم” القيم الليبرالية التحريرية المبشرة، خصوصا ما يتصل بحتمية مرور البشرية إلى عالم جديد قائم على الحريات الفردية والجماعية وقوة وشرعية المؤسسات التمثيلية المنتخبة في كنف “نظام قيمي نيوليبرالي” معولم، يقوم على منطق السوق والاستهلاك عبر لعبة العرض والطلب، بالتالي تشييد “دول الحريات والرفاه” ونبذ كل أشكال الأنظمة الاجتماعية غير الليبرالية الأخرى.

وبعدما، شهدت عدة دول في مناطق مختلفة من العالم تحولات متباينة العمق والشكل والأفق على درب الانتقال من عهود الابارتهايد، الديكتاتورية، الشمولية والسلطوية، كما حصل في مجموعة من دول أمريكا الجنوبية وجنوب إفريقيا ودول أوربا الشرقية وجنوب أوربا باسبانيا وغيرها من التجارب، ظلت دار لقمان على حالها، ولم يحدث أي من البشائر والتنبؤات المرتبطة “بحتمية التحول نحو الديمقراطية” في سائر أنحاء العالم، لدرجة أصبح الاعتقاد السائد لدى الكثير من المتخصصين والدارسين لتجارب الانتقال الديمقراطي عبر العالم، بأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تملك “المقومات والقابلية” لانجاز “تحولها الديمقراطي”، إما بسبب، “الإرث الطويل” لأشكال مختلفة الهيمنة والسلطوية والتبعية، الشيء جعلها تتعايش وتتآلف مع أنظمتها، رغم وجود مجتمع مدني ومفكرين وقوى حية مؤثرة، إلا أنها لا تمتلك القدرة على إحداث التغيير الديمقراطي المنشود.

4 – انبلاج صوت الشارع من رحم المعاناة والتهميش كنوع من إعادة صياغة لمفهوم المواطن والمواطنة الفاعلة

في “لحظة شرود” اندلعت موجات “الربيع العربي”، وأمام ذهول المتابعين للأحداث، تدافعت وسائل الإعلام لتغطية ونقل الوقائع من “ساحات الوغى والحراك”، المنبعث دخانها وشظاياها من “ميادين الاحتجاجات”. ومع هذا الزخم الهائج عبر “بلداننا المغاربية والمشرقية”، سارع المحللون للتبشير ببزوغ “الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي” التي صنعتها ديناميات القوى الكامنة للمجتمعات، خصوصا الشباب الذي ظل مغيبا من حسابات السياسة والسياسيين لعقود طويلة. ولعل ملاحم ” هذه القوى الحية لدول “نادي الربيع العربي”، ستظل أحداثها منقوشة في التاريخ بنفس القدر من التحاليل والقراءات والاستنتاجات التي صاحبتها منذ البداية إلى “إحداث الانتقال والتغيير” بهذه الدول.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن استفهام مميزات “الموجتين الديمقراطيتين”؛ الثالثة والرابعة للانتقال الديمقراطي، يباغثنا بجملة من الحقائق المثيرة، لكون تجارب الانتقال الديمقراطي بدول أوربا الشرقية، التي نجحت على منوال جيرانها بأوربا الغربية في التحول من السلطوية إلى الديمقراطية. كما لم تشهد ولو نسبة ضئيلة، من الكم الهائل الدمار والعنف والقتل الذي صاحب “تجارب الربيع العربي”، بشكل قوض أسس الدول المنهارة مفرزا “قيما” جديدة ومكرسا “لثقافة” الثأر والتخوين والإقصاء والطائفية والتطرف والإرهاب والكراهية. وباستثناءات محدودة، لا زلنا نراوح المكان ونعيد طرح سؤال الانتقال نحو دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكل نتطلع لنموذج تنموي جديد، يغنينا عن الخوض في تجارب “الربيع العربي” ومالاتها التخريبية والتسلطية وتداعياتها المحدقة بالمنطقة.
وكمنظور شمولي يستقرئ الواقع والأحداث والمتغيرات بشكل جدلي ملموس، يربط النتائج بالأسباب، ليؤكد حقيقة مفادها أن مجمل المخاضات والمتغيرات بعالمينا المغاربي والمشرقي معا، هي انعكاس للسياسات والاختيارات الاقتصادية وأنماط التربية والتكوين المعتمدة بالمنطقة منذ عقود، عن قصد وجهل أو تبعية للقوى الاستعمارية الجديدة. وتأسيسا عليه، فالتغيير المنشود، لن يستقيم معناه ومبناه ويصبح واقعا معيشيا يؤتي أكله كل حين، إلا عبر انتقال فكري استراتيجي كفيل بإحداث تحول مجتمعي وحضاري كبيرين يجعل من المواطن، مصدر ووسيلة وغاية كل نهضة اقتصادية وسياسية وثقافية. والاندراج في مجتمع الحداثة والمعرفة والتقدم، يعني بالأساس التركيز على بناء المواطن الديمقراطي مدخل لدمقرطة الدولة والمجتمع.

Posts Carousel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos